فصل: قصة بحيرا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 قصة بحيرا

حكى السهيلي عن سير الزهري أن بحيرى كان حبراً من أحبار اليهود‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر من سياق القصة أنه كان راهباً نصرانياً، والله أعلم‏.‏

وعن المسعودي أنه كان من عبد القيس، وكان اسمه جرجيس‏.‏ وفي كتاب ‏(‏المعارف‏)‏ لابن قتيبة‏:‏ سمع هاتف في الجاهلية قبل الإسلام بقليل يهتف ويقول‏:‏ ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة‏:‏ بحيرى، ورئاب بن البراء الشني، والثالث المنتظر‏.‏ وكان الثالث المنتظر هو الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ وكان قبر رئاب الشني وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش، وهو المطر الخفيف‏.‏

 فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام‏.‏

في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله له وحياطته وكيف كان يتيماً فآواه وعائلاً فأغناه‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزهاً وتكرماً، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال‏:‏

‏(‏‏(‏لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال‏:‏ شدَّ عليه إزارك‏.‏

قال‏:‏ فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي‏)‏‏)‏‏.‏

وهذه القصة شبيهة بما في ‏(‏الصحيح‏)‏ عند بناء الكعبة، حين كان ينقل هو وعمه العباس، فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 350‏)‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة، فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء‏.‏

ثم قام فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إزاري‏)‏‏)‏‏.‏

فشد عليه إزاره‏.‏

أخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث عبد الرزاق‏.‏

وأخرجاه أيضاً‏:‏ من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن جابر بنحوه‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا‏:‏ أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، حدثني ابن عباس، عن أبيه‏:‏ أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت، حين بنت قريش البيت‏.‏

قال‏:‏ وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشيد، قال‏:‏ فكنت أنا وابن أخي، وكنا نحمل على رقابنا، وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس أئتزرنا، فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي، قال‏:‏ فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء فقلت‏:‏، ما شأنك‏؟‏ فقام وأخذ إزاره قال‏:‏

‏(‏‏(‏إني نهيت أن أمشي عرياناً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون‏.‏

وروى البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/351‏)‏

‏(‏‏(‏ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما، قلت‏:‏ ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها - فقلت لصاحبي‏:‏ أبصر لي غنمي، حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان، فقال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفاً بالغرابيل والمزامير، فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ تزوج فلان فلانة‏.‏

فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال‏:‏ ما فعلت‏؟‏

فقلت‏:‏ ما فعلت شيئاً، ثم أخبرته بالذي رأيت‏.‏

ثم قلت له ليلة أخرى‏:‏ أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة ففعل، فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت‏:‏ فقيل نكح فلان فلانة فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي‏.‏

فقال‏:‏ ما فعلت‏؟‏

فقلت‏:‏ لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا حديث غريب جداً، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في آخره‏:‏

‏(‏‏(‏حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته‏)‏‏)‏ مقحماً، والله أعلم‏.‏

وشيخ ابن إسحاق هذا، ذكره ابن حبان في الثقات، وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح‏.‏ قال شيخنا في تهذيبه‏:‏ ولم أقف على ذلك، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ حدثني أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة قال‏:‏

كان صنم من نحاس، يقال له‏:‏ أساف ونائلة، يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تمسه‏)‏‏)‏‏.‏

قال زيد‏:‏ فطفنا، فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألم تنه‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده، قال زيد‏:‏ فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنماً قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه، وأنزل عليه‏.‏

وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرى حين سأله باللات والعزى‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئاً بغضهما‏)‏‏)‏

فأما الحديث الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد ابن عدي الحافظ، حدثنا إبراهيم بن أسباط، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن سفيان الثوري، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 352‏)‏

كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم قال‏:‏ فسمع ملكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه‏:‏ اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام‏؟‏

قال‏:‏ فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم‏.‏

فهو حديث أنكره غير واحد من الأئمة على عثمان بن أبي شيبة، حتى قال الإمام أحمد فيه‏:‏ لم يكن أخوه يتلفظ بشيء من هذا‏.‏

وقد حكى البيهقي عن بعضهم أن معناه‏:‏ أنه شهد مع من يستلم الأصنام، وذلك قبل أن يوحى إليه، والله أعلم‏.‏

وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه الله برسالته‏.‏ وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة، بل كان يقف مع الناس بعرفات، كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير قال‏:‏

لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه، حتى يدفع معهم توفيقاً من الله عز وجل له‏.‏

قال البيهقي‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏على دين قومه‏)‏ ما كان بقي من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في حجهم و مناكحهم و بيوعهم دون الشرك، ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائماً‏.‏

قلت‏:‏ ويفهم من قوله هذا أيضاً أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه‏.‏ وهذا توفيق من الله له‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن يعقوب، عن محمد بن إسحاق به، ولفظه‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه، وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات، حتى يدفع معهم توفيقاً من الله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن عمرو، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال‏:‏ أضللت بعيراً لي بعرفة، فذهبت أطلبه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف فقلت‏:‏ إن هذا من الحمس ما شأنه ههنا‏؟‏ وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 353‏)‏

 شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار

قال ابن إسحاق‏:‏ هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وإنما سمي يوم الفجار بما استحل فيه هذان الحيان - كنانة وقيس عيلان - من المحارم بينهم‏.‏

وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة - أو خمس عشرة سنة - فيما حدثني به أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء‏:‏ هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة، وبين قيس عيلان، وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة - أي تجارة - للنعمان بن المنذر‏.‏

فقال له البراض بن قيس - أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة -‏:‏ أتجيزها على كنانة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وعلى الخلق‏.‏ فخرج فيها عروة الرحال، وخرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية، غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمي الفجار‏.‏

وقال البراض في ذلك‏:‏

وداهية تهم الناس قبلي * شددت لها بني بكر ضلوعي

هدمت بها بيوت بني كلاب * وأرضعت الموالي بالضروع

رفعت له بذي طلال كفي * فخر يميد كالجذع الصريع

‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 354‏)‏

وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب‏:‏

وأبلغ - إن عرضت - بني كلاب * وعامر والخطوب لها موالي

وأبلغ - إن عرضت - بني نمير * وأخوال القتيل بني هلال

بأن الوافد الرحال أمسى * مقيماً عند تيمن ذي طلال

قال ابن هشام‏:‏ فأتى آت قريشاً، فقال‏:‏ إن البراض قد قتل عروة، وهو في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم، ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، فدخلوا الحرم فأمسكت هوازن عنهم، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياماً، والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم‏.‏

قال‏:‏ وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كنت أنبل على أعمامي‏)‏‏)‏ أي‏:‏ أرد عليهم نبل عدوهم، إذا رموهم بها‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وحديث الفجار طويل، هو أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ والفجار بكسر الفاء، على وزن‏:‏ قتال، وكانت الفجارات في العرب أربعة، ذكرهن المسعودي، وآخرهن فجار البرض هذا‏.‏ وكان القتال فيه في أربعة أيام‏:‏ يوم شمطة، ويوم العبلاء، وهما عند عكاظ، ويوم الشرب - وهو أعظمها يوماً - وهو الذي حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قيدا رئيس قريش وبني كنانة‏:‏ وهما حرب بن أمية، وأخوه سفيان أنفسهما لئلا يفروا‏.‏

وانهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر، فإنهم ثبتوا، ويوم الحريرة عند نخلة، ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ، فلما توافوا الموعد، ركب عتبة بن ربيعة جمله ونادى‏:‏ يا معشر مضر علام تقاتلون‏؟‏ فقالت له هوازن‏:‏ ما تدعو إليه‏؟‏ قال‏:‏ الصلح‏.‏ قالوا‏:‏ وكيف‏؟‏ قال‏:‏ ندي قتلاكم، ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا‏.‏

قالوا‏:‏ ومن لنا بذلك‏؟‏ قال‏:‏ أنا‏.‏ قالوا‏:‏ ومن أنت‏؟‏ قال‏:‏ عتبة بن ربيعة، فوقع الصلح على ذلك، وبعثوا إليهم أربعين رجلاً فيهم حكيم بن حزام، فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم، عفوا عن دياتهم وانقضت حرب الفجار‏.‏

وقد ذكر الأموي حروب الفجار، وأيامها، واستقصاها مطولاً، فيما رواه عن الأثرم - وهو المغيرة بن علي - عن أبي عبيدة معمر بن المثنى فذكر ذلك‏.‏

 فصل شهود رسول الله عليه الصلاة والسلام حلف المطيبين مع عمومته‏.‏

قال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، حدثنا يحيى بن علي بن هاشم الخفاف، حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي، حدثنا إسماعيل بن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 355‏)‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه - أو كلمة نحوها - وإن لي حمر النعم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكذلك رواه بشر بن المفضل عن عبد الرحمن‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، حدثنا أبو عمرو ابن مطر، حدثنا أبو بكر ابن أحمد بن داود السمناني، حدثنا معلى بن مهدي، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما شهدت حلفاً لقريش إلا حلف المطيبين وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ والمطيبون‏:‏ هاشم، وأمية، وزهرة، ومخزوم‏.‏

قال البيهقي‏:‏ كذا روى هذا التفسير مدرجاً في الحديث، ولا أدري قائله، وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين‏.‏

قلت‏:‏ هذا لا شك فيه، وذلك أن قريشاً تحالفوا بعد موت قصي، وتنازعوا في الذي كان جعله قصي لابنه عبد الدار من السقاية، والرفادة، واللواء، والندوة، والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف، وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش وتحالفوا على النصرة لحزبهم، فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا، فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت، فسموا المطيبين كما تقدم‏.‏

وكان هذا قديماً، ولكن المراد بهذا الحلف حلف الفضول، وكان في دار عبد الله بن جدعان، كما رواه الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله، عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وألا يعد ظالم مظلوما‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي القعدة، وكان بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وذلك لأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة، وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 356‏)‏

وكان سببه أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار، ومخزوماً، وجمحاً، وسهماً، وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه أي‏:‏ انتهروه‏.‏

فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس -وقريش في أنديتهم حول الكعبة - فنادى بأعلى صوته‏:‏

يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته * يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن أثت كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال‏:‏ ما لهذا متروك‏؟‏ فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وما رسى ثبير وحراء مكنهما، وعلى التأسي في المعاش‏.‏

فسمت قريش ذلك الحلف‏:‏ حلف الفضول، وقالوا‏:‏ لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه‏.‏

وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك‏:‏

حلفت لنعقدن حلفاً عليهم * وإن كنا جميعاً أهل دار

نسميه الفضول إذا عقدنا * يعزبه الغريب لذي الجوار

ويعلم من حوالي البيت أنا * أباة الضيم نمنع كل عار

وقال الزبير أيضاً‏:‏

إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا * ألا يقيم ببطن مكة ظالم

أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا * فالجار والمعتر فيهم سالم

وذكر قاسم بن ثابت في - غريب الحديث - أن رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً - أو معتمراً - ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه‏.‏

فقال الخثعمي‏:‏ من يعديني على هذا الرجل‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 357‏)‏

فقيل له‏:‏ عليك بحلف الفضول‏.‏

فوقف عند الكعبة ونادى‏:‏ يا آل حلف الفضول، فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم، يقولون‏:‏ جاءك الغوث فما لك‏؟‏

فقال‏:‏ إن نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً، فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم فقالوا له‏:‏ أخرج الجارية ويحك فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه، فقال‏:‏ أفعل ولكن متعوني بها الليلة‏.‏ فقالوا‏:‏ لا والله ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم وهو يقول‏:‏

راح صحبي ولم أحيي القتولا * لم أودعهم وداعاً جميلا

إذ أجد الفضول أن يمنعوها * قد أراني ولا أخاف الفضولا

لا تخالي أني عشية راح الركب * هنتم علي أن لا يزولا

وذكر أبياتاً أخر غير هذه، وقد قيل‏:‏ إنما سمي هذا حلف الفضول لأنه أشبه حلفاً تحالفته جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظالمه، وكان الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم، اسم كل واحد منهم فضل، وهم‏:‏ الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث، هذا قول ابن قتيبة‏.‏

وقال غيره‏:‏ الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة‏.‏ وقد أورد السهيلي هذا رحمه الله‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ وتداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكان حلفهم عنده بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها، وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى يرد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعي به في الإسلام لأجبت‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه‏:‏ أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير المدنية أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان - منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه‏.‏

فقال له الحسين‏:‏ احلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 358‏)‏

قال‏:‏ فقال عبد الله بن الزبير - وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال - وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعاً‏.‏

قال‏:‏ وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك‏.‏ فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي‏.‏

 تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال على مالها مضاربة، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجراً إلى الشام، وتعطيه أفضل ما تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة‏.‏

فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال‏:‏ من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة‏؟‏ فقال ميسرة‏:‏ هذا رجل من قريش من أهل الحرم‏.‏

فقال له الراهب‏:‏ ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي‏.‏ ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته - يعني تجارته - التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريباً‏.‏

وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها، فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له - فيما يزعمون - يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، وكانت أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً، كل قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه‏.‏

فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 359‏)‏

قال ابن هشام‏:‏ فأصدقها عشرين بكرة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم‏:‏ القاسم - وكان به يكنى - والطيب، والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ أكبرهم القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر‏.‏

وأكبر بناته‏:‏ رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة‏.‏

قال البيهقي، عن الحاكم‏:‏ قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال‏:‏ أكبر ولده عليه الصلاة والسلام‏:‏ القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية‏.‏ وكان أول من مات من ولده القاسم مات بمكة، ثم عبد الله‏.‏

وبلغت خديجة خمساً وستين سنة، ويقال خمسين وهو أصح‏.‏

وقال غيره‏:‏ بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة، ثم مات بعد النبوة، وقيل مات وهو رضيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن له مرضعاً في الجنة يستكمل رضاعه‏)‏‏)‏‏.‏

والمعروف أن هذا في حق إبراهيم‏.‏

وقال يونس بن بكير‏:‏ حدثنا إبراهيم بن عثمان، عن القاسم، عن ابن عباس قال‏:‏ ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع نسوة‏:‏ القاسم، وعبد الله، وفاطمة، وأم كلثوم، وزينب، ورقية‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ عبد الله هو الطيب، وهو الطاهر، سمي بذلك لأنه ولد بعد النبوة، فماتوا قبل البعثة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 360‏)‏

وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الإسلام، وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وأما إبراهيم فمن مارية القبطية، التي أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية من كورة أنصنا، وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك، في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة، فيما حدثني غير واحد من أهل العلم منهم‏:‏ أبو عمرو المدني‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان كتبت عن إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني غير واحد‏:‏ أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره خمساً وعشرين سنة، وقريش تبني الكعبة‏.‏

وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم‏:‏ أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة، وكان عمرها إذ ذاك خمساً وثلاثين، وقيل‏:‏ خمساً وعشرين سنة‏.‏

وقال البيهقي‏:‏

 باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن عبد الله، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عمرو بن أبي يحيى بن سعيد القرشي، عن جده سعيد، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له أصحابه‏:‏ وأنت يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط‏)‏‏)‏‏.‏

رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي، عن عمرو بن يحيى به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 361‏)‏

ثم روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر - وهو ضعيف - عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس‏:‏ أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو - أظنه - قال‏:‏ سكران‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو الحسين ابن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان قال‏:‏ حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني عبد الله بن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن مقسم بن أبي القاسم - مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل - أن عبد الله بن الحارث حدثه‏:‏

أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول‏:‏ أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت له ترباً، وكنت له إلفاً وخدناً‏.‏

وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة، أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة‏.‏

قال عمار‏:‏ فرجعت إليه فأخبرته، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل لعمري‏)‏‏)‏‏.‏

فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا أبا خديجة حلة وصفرت لحيته، وكلمت أخاها، فكلم أباه، وقد سقى خمراً، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه، وسألته أن يزوجه فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاماً فأكلنا منه‏.‏

ونام أبوها ثم استيقظ صاحياً فقال‏:‏ ما هذه الحلة‏؟‏ وما هذه الصفرة وهذا الطعام‏؟‏

فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عماراً‏:‏ هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة، فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء الحجر، وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاؤه فكلموه‏.‏

فقال‏:‏ أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة‏؟‏ فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه قال‏:‏ إن كنت زوجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته‏.‏

وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران، وذكر نحو ما تقدم، حكاه السهيلي‏.‏

قال المؤملي‏:‏ المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه، وهذا هو الذي رجحه السهيلي، وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 362‏)‏

وكان خويلد مات قبل الفجار، وهو الذي نازع تبعاً حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش، ثم رأى تبع في منامه ما روعه، فنزع عن ذلك وترك الحجر الأسود مكانه‏.‏

وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة‏:‏ أن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم‏.‏

 فصلذكر خديجة لورقة بن نوفل عن النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي - وكان ابن عمها وكان نصرانياً قد تتبع الكتب، وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه - فقال ورقة‏:‏ لئن كان هذا حقاً يا خديجة، إن محمداً لنبي هذه الأمة قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه - أو كما قال - فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول‏:‏ حتى متى‏؟‏ وقال في ذلك‏:‏

لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لهمٍّ طالما ما بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصف * فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا

بما خبرتنا من قول قس * من الرهبان أكر أن يعوجا

بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور * يقوم به البرية أن تموجا

فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا

فيا ليتني إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا

‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 363‏)‏

وَلوجاً في الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا

أرجي بالذي كرهوا جميعاً * إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا

وهل أمر السفالة غير كفر * بمن يختار من سمك البروجا

فإن يبقوا وأبق يكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا

وإن أهلك فكل فتى سيلقى * من الأقدار متلفة خروجا

وقال ورقة أيضاً فيما رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عنه‏:‏

أتبكر أم أنت العشية رائح * وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح

لفرقة قوم لا أحب فراقهم * كأنك عنهم بعد يومين نازح

وأخبار صدق خبرت عن محمد * يخبرها عنه إذا غاب ناصح

أتاك الذي وجهت يا خير حرة * بغور وبالنجدين حيث الصحاصح

إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت * وهن من الأحمال تعص دوالح

فيخبرنا عن كل خير بعلمه * وللحق أبواب لهن مفاتح

بأن ابن عبد الله أحمد مرسل * إلى كل من ضمت عليه الأباطح

وظني به أن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح

وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الذكر واضح

ويتبعه حيا لؤي وغالب * شبابهم والأشيبون الجحاجح

فإن أبق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الود فارح

وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الأرض العريضة سائح

وزاد الأموي‏:‏

فمتبع دين الذي أسس البنا *وكان له فضل على الناس راجح

وأسس بنيانا بمكة ثابتا * تلألأ فيه بالظلام المصابح

مثاباً لأفناء القبائل كلها * تخب إليه اليعملات الطلائح

حراجيج أمثال القداح من السرى * يعلق في أرساغهن السرايح

‏(‏ج/ص‏:‏ 2/364‏)‏

ومن شعره فيما أورده أبو القاسم السهيلي في ‏(‏روضه‏)‏

لقد نصحت لأقوام وقلت لهم * أنا النذير فلا يغرركم أحد

لا تعبدن إلها غير خالقكم * فإن دعوكم فقولوا بيننا حداد

سبحان ذي العرش سبحاناً يدوم له * وقبلنا سبح الجودي والجمد

مسخر كل ما تحت السماء له * لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد

لا شيء مما نرى تبقى بشاشته * يبقى الإله ويودي المال والولد

لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح به * والجن والإنس فيما بينها مرد

أين الملوك التي كانت لعزتها * من كل أوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب * لا بد من ورده يوماً كما وردوا

ثم قال‏:‏ هكذا نسبه أبو الفرج إلى ورقة قال‏:‏ وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت‏.‏

قلت‏:‏ وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستشهد في بعض الأحيان بشيء من هذه الأبيات، والله أعلم‏.‏

 فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين‏.‏

ذكر البيهقي في بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة، والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 365‏)‏

ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته، وأورد حديث ابن عباس المتقدم في صحيح البخاري، وذكر ما ورد من الإسرائيليات في بنائه في زمن آدم ولا يصح ذلك‏.‏

فإن ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم أول من بناه مبتدئاً، وأول من أسسه، وكانت بقعته معظمة قبل ذلك، معتنى بها مشرفة في سائر الأعصار والأوقات‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96-97‏]‏‏.‏

وثبت في الصحيحين عن أبي ذر قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏:‏ أي مسجد وضع أول‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏المسجد الحرام‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏المسجد الأقصى‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ كم بينهما‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أربعون سنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقد تكلمنا على هذا فيما تقدم‏.‏ وإن المسجد الأقصى أسسه إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام -

وفي الصحيحين أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن مهران، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ كان البيت قبل الأرض بألفي سنة ‏{‏وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 3‏]‏ قال‏:‏ من تحته مدت‏.‏

قال‏:‏ وقد تابعه منصور عن مجاهد‏.‏

قلت‏:‏ وهذا غريب جداً، وكأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك، وكان فيهما إسرائيليات يحدث منها، وفيهما منكرات وغرائب‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثنا أبو صالح الجهني، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما‏:‏ ابنيا لي بيتاً، فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به، وقيل له أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعاً‏.‏

قلت‏:‏ وهو ضعيف، ووقفه على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 366‏)‏

وقال الربيع بن سليمان‏:‏ أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان، عن ابن أبي لبيد، عن محمد بن كعب القرظي - أو غيره - قال‏:‏ حج آدم فلقيته الملائكة فقالوا‏:‏ بر نسكك يا آدم، لقد حججنا قبلك بألفي عام‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني بقية - أو قال ثقة - من أهل المدينة، عن عروة بن الزبير أنه قال‏:‏ ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح‏.‏

قلت‏:‏ وقد قدمنا حجهما إليه، والمقصود الحج إلى محله وبقعته، وإن لم يكن ثم بناء، والله أعلم‏.‏

ثم أورد البيهقي حديث ابن عباس المتقدم في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله وتمامه، وهو في صحيح البخاري‏.‏

ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال‏:‏ سأل رجل علياً عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ‏}‏ أهو أول بيت بني في الأرض‏؟‏

قال‏:‏ لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس والهدى ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا، وإن شئت نبأتك كيف بناؤه‏:‏

إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتاً في الأرض، فضاق به ذرعاً، فأرسل إليه السكينة، وهي ريح خجوج لها رأس فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت، ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية، فبنى إبراهيم وكان يبني هو ساقاً كل يوم حتى بلغ مكان الحجر قال لابنه‏:‏ ابغني حجراً، فالتمس حجراً حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد ركب، فقال لأبيه‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏

قال‏:‏ جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء فأتمه، قال فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ رجل شاب، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا‏:‏ نحكِّم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط، ثم ترفعه جميع القبائل كلهم‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة، وقيس، وسلام كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه‏.‏

قال يعقوب بن سفيان‏:‏ أخبرني أصبغ بن فرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم جمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها، حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن، اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه، فقالوا‏:‏ تعالوا نحكم أول من يطلع علينا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 367‏)‏

فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه، فكان لا يزداد على السن الأرضي حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا لا ينحرون جزوراً إلا التمسوه، فيدعو لهم فيها‏.‏

وهذا سياق حسن وهو من سير الزهري، وفيه من الغرابة قوله‏:‏ فلما بلغ الحلم، والمشهور أن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمره خمس وثلاثون سنة، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة، وهكذا قال مجاهد، وعروة، ومحمد بن جبير بن مطعم وغيرهم، فالله أعلم‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ كان بين الفجار، وبين بناء الكعبة خمس عشرة سنة‏.‏

قلت‏:‏ وكان الفجار وحلف الفضول في سنة واحدة، إذ كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، وهذا يؤيد ما قال محمد بن إسحاق، والله أعلم‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وإنما حمل قريشاً على بنائها أن السيول كانت تأتي من فوقها، من فوق الردم الذي صفوه، فخر به فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له‏:‏ مليح، سرق طيب الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها، وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا، فأعدوا لذلك نفقة وعمالاً، ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم الذي أرادوا، فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئاً هو الوليد بن المغيرة‏.‏

فلما رأوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها فأعجبهم ذلك، فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم، فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم، فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها، فأشفقوا منها شفقة شديدة، وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة‏.‏

وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس، وشرفاً لهم، فلما سقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم، قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان من نصحه لهم، وأمره إياهم أن لا يتشاجروا، ولا يتحاسدوا في بنائها، وأن يقتسموها أرباعاً، وأن لا يدخلوا في بنائها مالاً حراماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 368‏)‏

وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء، وتغيبت عنهم، ورأوا أن ذلك من الله عز وجل‏.‏ قال‏:‏ ويقول بعض الناس‏:‏ إنه اختطفها طائر، وألقاها نحو أجياد‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة، فقطعت قريش يده، وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك‏.‏

وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها‏.‏

قال الأموي‏:‏ كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم، تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد، سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس للحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة، بعث الله عليها ريحاً فحطمتها‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى إليها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها‏.‏

فبينما هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش‏:‏ إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رقيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية‏.‏

وحكى السهيلي عن رزين‏:‏ أن سارقاً دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها، فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه، وأخذوا منه ما كان أخذه، ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي، وبطنها أبيض، وظهرها أسود، فأقامت فيها خمسمائة عام، وهي التي ذكرها محمد بن إسحاق‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها، قام أبو وهب عمرو بن عابد بن عبد بن عمران بن مخزوم - وقال ابن هشام - عابد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجراً، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال‏:‏ يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 369‏)‏

ثم رجح ابن إسحاق أن قائل ذلك‏:‏ أبو وهب بن عمرو، قال‏:‏ وكان خال أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شريفاً ممدحاً‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ ثم أن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى، ولبني عدي بن كعب - وهو الحطيم -

ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة‏:‏ أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول‏:‏ اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا‏:‏ ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا من هدمها‏.‏

فأصبح الوليد غدياً على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة أخذ بعضها بعضاً - ووقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان كأسنمة الإبل -

قال السهيلي‏:‏ وأرى رواية السيرة كالألسنة وهماً، والله أعلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس‏.‏

وقال موسى بن عقبة‏:‏ وزعم عبد الله بن عباس‏:‏ أن أولية قريش كانوا يحدثون أن رجلاً من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة وانتهوا إلى تأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، عمد رجل منهم إلى حجر من الأساس الأول، فرفعه وهو لا يدري أنه من الأساس الأول‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 370‏)‏

فأبصر القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل، ونزا الحجر من يده فوقع في موضعه، وفزع الرجل والبناة‏.‏

فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه، عادوا إلى بنيانهم وقالوا‏:‏ لا تحركوا هذا الحجر، ولا شيئاً بحذائه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحُدثت أن قريشاً وجدوا في الركن كتاباً بالسريانية فلم يعرفوا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو‏:‏ أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها - قال ابن هشام‏:‏ يعني جبلاها - مبارك لأهلها في الماء واللبن‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحُدثت أنهم وجدوا في المقام كتاباً فيه‏:‏ مكة بيت الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها‏.‏

قال‏:‏ وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة - إن كان ما ذكر حقاً -مكتوباً فيه‏:‏ من يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة، يعملون السيئات ويجزون الحسنات‏؟‏‏!‏ أجل، كما يجتنى من الشوك العنب‏.‏

وقال سعيد بن يحيى الأموي‏:‏ حدثنا المعتمر بن سليمان الرقي، عن عبد الله بن بشر الزهري - يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ وجد في المقام ثلاثة أصفح‏:‏

في الصفح الأول‏:‏ إني أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لأهلها في اللحم واللبن‏.‏

وفي الصفح الثاني‏:‏ إني أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته‏.‏

وفي الصفح الثالث‏:‏ إني أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر وقدرته، فطوبى لمن أجريت الخير على يديه، وويل لمن أجريت الشر على يديه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحارروا أو تحالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً‏.‏ ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم‏.‏

فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلها - قال‏:‏ يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أول داخل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 371‏)‏

فلما رأوه قالوا‏:‏ هذا الأمين رضينا هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هلموا إلي ثوباً‏)‏‏)‏‏.‏

فأُتي به، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً‏)‏‏)‏‏.‏

ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأمين‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت - يعني أبا يزيد - حدثنا هلال - يعني ابن حبان - عن مجاهد، عن مولاه - وهو السائب بن عبد الله - أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال‏:‏ وكان لي حجر - أنا نحته أعبده من دون الله - قال‏:‏ وكنت أجيء باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي، فأصبه عليه، فيجيء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول عليه‏.‏

قال‏:‏ فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر، ولا يرى الحجر أحد، فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل، يكاد يترايا منه وجه الرجل‏.‏ فقال‏:‏ بطن من قريش نحن نضعه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ نحن نضعه‏.‏ فقالوا‏:‏ اجعلوا بينكم حكماً‏.‏ فقالوا‏:‏ أول رجل يطلع من الفج‏.‏

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أتاكم الأمين، فقالوا له فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة ذراعاً، وكانت تكسى القباطي، ثم كسيت بعد البرور، وأول من كساها الديباج‏:‏ الحجاج بن يوسف‏.‏

قلت‏:‏ وقد كانوا أخرجوا منها الحجر - وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام - قصرت بهم النفقة أي‏:‏ لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 372‏)‏

وجعلوا للكعبة باباً واحداً من ناحية الشرق، وجعلوه مرتفعاً لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا‏.‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة، ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها باباً شرقياً، وباباً غربياً، وأدخلت فيها الحجر‏)‏‏)‏‏.‏

ولهذا لما تمكن ابن الزبير، بناها على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت في غاية البهاء والحسن والسناء كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملتصقان بالأرض شرقياً وغربياً، يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر‏.‏

فلما قتل الحجاج ابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان - وهو الخليفة يومئذ - فيما صنعه ابن الزبير، واعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه، فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه، وأخرجوا منه الحجر ورصوا حجارته في أرض الكعبة، فارتفع باباها، وسدوا الغربي، واستمر الشرقي على ما كان عليه‏.‏

فلما كان في زمن المهدي - أو ابنه المنصور - استشار مالكاً في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير، فقال مالك رحمه الله‏:‏ إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة، فتركها على ما هي عليه فهي إلى الآن كذلك‏.‏

وأما المسجد الحرام‏:‏ فأول من أخَّر البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشتراها من أهلها وهدمها، فلما كان عثمان اشترى دوراً وزادها فيه، فلما ولي ابن الزبير أحكم بنيانه، وحسن جدرانه، وأكثر أبوابه، ولم يوسعه شيئاً آخر‏.‏

فلما استبد بالأمر عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه، وأمر بالكعبة فكسيت الديباج، وكان الذي تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف‏.‏

وقد ذكرنا قصة بناء البيت والأحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة، عند قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ‏}‏ وذكرنا ذلك مطولاً مستقصى، فمن شاء كتبه هاهنا، ولله الحمد والمنة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما فرغوا من البنيان، وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها‏:‏

عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب

وقد كانت تكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب

إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء وقد نهاب

فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب تتلئب لها انصباب

فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب

فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب

غداة يرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب

أعز به المليك بني لؤي * فليس لأصله منهم ذهاب

وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب

فبوأنا المليك بذاك عزاً * وعند الله يلتمس الثواب

‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 373‏)‏

وقد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقذار الجاهلية، أنه كان هو والعباس عمه ينقلان الحجارة، وأنه عليه الصلاة والسلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهي عن خلع إزاره، فأعاده إلى سيرته الأولى‏.‏

 فصل تعظيم قريش للحرم تعظيما زائداً أدى إلى الابتداع

وذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس، وهو الشدة في الدين والصلابة، وذلك لأنهم عظموا الحرم تعظيماً زائداً، بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة‏.‏

وكانوا يقولون‏:‏ نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله، فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام، حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة‏.‏

وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطاً ولا سمناً، ولا يسلون شحماً وهم حرم، ولا يدخلون بيتاً من شعر، ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت من أدم‏.‏

وكانوا يمنعون الحجيج والعمار - ما داموا محرمين - أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة، طاف عرياناً ولو كانت امرأة، ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك، وضعت يدها على فرجها وتقول‏:‏

اليوم يبدو بعضه أو كله * وبعد هذا اليوم لا أحله

فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسي فطاف في ثياب نفسه، فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك، وليس له ولا لغيره أن يمسها، وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 374‏)‏

قال بعض الشعراء‏:‏

كفى حزناً كرى عليه كأنه * لقي بين أيدي الطائفين حريم

قال ابن إسحاق‏:‏ فكانوا كذلك حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن رداُ عليهم فيما ابتدعوه‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ‏}‏ أي‏:‏ جمهور العرب من عرفات ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 199‏]‏‏.‏

وقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقاً من الله له، وأنزل الله عليه رداً عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 31-32‏]‏

وقال زياد البكائي عن ابن إسحاق‏:‏ ولا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده‏.‏

 مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً وذكر شيء من البشارات بذلك

قال محمد بن إسحاق رحمه الله‏:‏ وكانت الأحبار من اليهود والكهان من النصارى ومن العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، لما تقارب زمانه‏.‏

أما الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته، وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏‏.‏

وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏‏:‏ عن ابن عباس قال‏:‏ ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه‏.‏ يعلم من هذا أن جميع الأنبياء بشروا وأمروا باتباعه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 375‏)‏

وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، ما كان بدء أمرك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه مثله‏.‏ ومعنى هذا أنه أراد بدء أمره بين الناس، واشتهار ذكره، وانتشاره، فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل كما تقدم، يدل هذا على أن من بينهما من الأنبياء بشروا به أيضاً‏.‏

أما في الملأ الأعلى فقد كان أمره مشهوراً مذكوراً معلوماً من قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إني عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه الليث عن معاوية بن صالح وقال‏:‏ إن أمه رأت حين وضعته نوراً أضاءت منه قصور الشام‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضاً‏:‏ حدثنا عبد الرحمن، حدثنا منصور بن سعد، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، متى كنت نبياً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وآدم بين الروح والجسد‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد بهن أحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 376‏)‏

وقد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من حديث أبي هريرة فقال‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - يعني أبا القاسم البغوي - حدثنا أبو همام الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، حدثني يحيى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بين خلق آدم ونفخ الروح فيه‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه من وجه آخر عن الأوزاعي به‏:‏وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وآدم منجدل في طينته‏)‏‏)‏‏.‏

وروي عن البغوي أيضاً‏:‏ عن أحمد بن المقدام، عن بقية بن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي هريرة مرفوعاً في قول الله تعالى‏:‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث‏)‏‏)‏‏.‏

ومن حديث أبي مزاحم عن قيس بن الربيع، عن جابر، عن الشعبي، عن ابن عباس قيل‏:‏ يا رسول الله متى كنت نبياً‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وآدم بين الروح والجسد‏)‏‏)‏‏.‏

وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره، ولا يلقي العرب لذلك فيه بالاً، حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها‏.‏

فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر زمان مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تعقد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم فعرفت الشياطين أن ذلك لأمر حدث من أمر الله عز وجل‏.‏

قال‏:‏ وفي ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1-28‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏

وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا التفسير، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29-30‏]‏ الآيات، ذكرنا تفسير ذلك كله هناك‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها - هذا الحي من ثقيف - وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له‏:‏ عمرو بن أمية أحد بني علاج، وكان أدهى العرب وأمكرها، فقالوا له‏:‏ يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم‏؟‏

قال‏:‏ بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر، ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمي بها، فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق، وإن كانت نجوماً غيرها وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 377‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم يقال لها الغيطلة، كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي، فانقض تحتها ثم قال‏:‏ أدر ما أدر يوم عقر ونحر‏.‏ قالت قريش حين بلغها ذلك‏:‏ ما يريد‏؟‏

ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها، ثم قال‏:‏ شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب الجنوب، فلما بلغ ذلك قريشاً قالوا‏:‏ ماذا يريد إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو‏؟‏ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب، فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنباً - بطناً من اليمن - كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشر في العرب قالت له جنب‏:‏ انظر لنا في أمر هذا الرجل، واجتمعوا له في أسفل جبله‏.‏

فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائماً متكئاً على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلاً، ثم جعل ينزو، ثم قال‏:‏ أيها الناس إن الله أكرم محمداً واصطفاه، وطهر قلبه وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل، ثم اشتد في جبله راجعاً من حيث جاء‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق قصة سواد بن قارب، وقد أخرناها إلى هواتف الجان‏.‏

 فصل طلب اليهود من الله تعالى أن يبعث لهم نبياً يحكم بينهم وبين الناس

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه قالوا‏:‏ إن مما دعانا إلى الإسلام - مع رحمة الله تعالى وهداه لنا - أن كنا نسمع من رجل من يهود - وكنا أهل شرك أصحاب أوثان - وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا‏:‏ إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم‏.‏

فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏‏.‏

وقال ورقاء عن ابن أبي نجيح عن علي الأزدي‏:‏ كانت اليهود تقول‏:‏ اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون به - أي يستنصرون به على الناس - رواه البيهقي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 378‏)‏

ثم روي من طريق عبد الملك بن هارون بن عنبرة، عن أبيه، عن جده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كانت اليهود بخيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا‏:‏ اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم‏.‏

قال‏:‏ فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وروى عطية، عن ابن عباس نحوه‏.‏

وروي عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضاً‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلام بن وقش - وكان من أهل بدر - قال‏:‏ كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال‏:‏ فخرج علينا يوماً من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة‏:‏ وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً، علي فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار‏.‏

قال‏:‏ فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له‏:‏ ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا‏؟‏ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم‏؟‏

قال‏:‏ نعم، والذي يحلف به ويود أن له تحطة من تلك النار أعظم تنور في الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً‏.‏

قالوا له‏:‏ ويحك يا فلان، فما آية ذلك‏؟‏

قال‏:‏ نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى نحو مكة واليمن‏.‏

قالوا‏:‏ ومتى نراه‏؟‏

قال‏:‏ - فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً - فقال‏:‏ إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه‏.‏

قال سلمة‏:‏ فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمداً رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً‏.‏

قال‏:‏ فقلنا له‏:‏ ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت‏؟‏

قال‏:‏ بلى، ولكن ليس به‏.‏ رواه أحمد، عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن عباس‏.‏

ورواه البيهقي، عن الحاكم بإسناده من طريق يونس بن بكير‏.‏

وروى أبو نعيم في ‏(‏الدلائل‏)‏ عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن سلمة قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 379‏)‏

لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع، فسمعته يقول - وإني لغلام في إزار - قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثم أشار بيده إلى بيت الله، فمن أدركه فليصدقه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا وهو بين أظهرنا لم يسلم حسداً وبغياً‏.‏

وقد قدمنا حديث أبي سعيد، عن أبيه في أخبار يوشع هذا عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفته، ونعته وإخبار الزبير بن باطا عن ظهور كوكب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الحاكم عن البيهقي بإسناده من طريق يونس بن بكير عنه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال‏:‏ قال لي هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد - نفر من بني هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام -

قال‏:‏ قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فإن رجلاً من اليهود من أرض الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له‏:‏ اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول‏:‏ لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة‏.‏ فنقول له‏:‏ كم‏؟‏

فيقول‏:‏ صاعاً من تمر، أو مدين من شعير‏.‏

قال‏:‏ فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا، فيستسقي لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب، ويسقي، قد فعل ذلك غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثاً‏.‏

قال‏:‏ ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال‏:‏ يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع‏.‏

قال‏:‏ قلنا‏:‏ أنت أعلم‏.‏

قال‏:‏ فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء فيمن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه‏.‏

فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية - وكانوا شباباً أحداثاً - يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان، قالوا‏:‏ ليس به‏.‏ قالوا‏:‏ بلى والله إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم، وأموالهم، وأهليهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود‏.‏

قلت‏:‏ وقد قدمنا في قدوم تبع اليماني - وهو أبو كرب تبان أسعد - إلى المدينة ومحاصرته إياها، وإنه خرج إليه ذانك الحبران من اليهود فقالا له‏:‏ إنه لا سبيل لك عليها، إنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فثناه ذلك عنها‏.‏

وقد روى أبو نعيم في ‏(‏الدلائل‏)‏ من طريق الوليد بن مسلم‏:‏ حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ قال عبد الله بن سلام‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 380‏)‏

إن الله لما أراد هدي زيد بن سعية قال زيد‏:‏ لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً‏.‏

قال‏:‏ فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه وسلم مالاً في ثمرة‏.‏ قال‏:‏ فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه - وهو في جنازة مع أصحابه - ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت‏:‏ يا محمد ألا تقضيني حقي‏؟‏ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل‏.‏

قال‏:‏ فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم قال‏:‏ يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل ما أرى‏؟‏ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم‏.‏

ثم قال‏:‏ أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزد عشرين صاعاً من تمر‏.‏ فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه، وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي عام تبوك رحمه الله‏.‏

ثم ذكر ابن إسحاق رحمه الله إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه فقال‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس قال‏:‏ حدثني سلمان الفارسي - من فيه - قال‏:‏

كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة‏.‏

قال‏:‏ وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال‏:‏ فشغل في بنيان له يوماً، فقال لي‏:‏ يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي‏:‏ ولا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري‏.‏

قال‏:‏ فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت‏:‏ هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها‏.‏

ثم قلت لهم‏:‏ أين أصل هذا الدين‏؟‏

قالوا‏:‏ بالشام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 381‏)‏

فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي، وشغلته عن أمره كله، فلما جئت قال‏:‏ أي بني أين كنت، ألم أكن أعهد إليك ما عهدته‏؟‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ يا أبة مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس‏.‏ قال‏:‏ أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ كلا والله، إنه لخير من ديننا‏.‏

قال‏:‏ فخافني، فجعل في رجلي قيداً ثم حبسني في بيتي‏.‏

قال‏:‏ وبعثت إلى النصارى فقلت لهم‏:‏ إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم‏.‏ قال‏:‏ فقدم عليهم ركب من الشام فجاءني النصارى فأخبروني بهم‏.‏ فقلت لهم‏:‏ إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني‏.‏

قال‏:‏ فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت‏:‏ من أفضل أهل هذا الدين علماً‏؟‏

قالوا‏:‏ الأسقف في الكنيسة‏.‏ قال‏:‏ فجئته فقلت له‏:‏ إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك فأصلي معك‏.‏

قال‏:‏ ادخل‏.‏ فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئاً كنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق‏.‏ قال‏:‏ وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات واجتمعت له النصارى ليدفنوه، فقلت لهم‏:‏ إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فقالوا لي‏:‏ وما علمك بذلك‏؟‏

قال‏:‏ فقلت لهم‏:‏ أنا أدلكم على كنزه‏.‏ قالوا‏:‏ فدلنا عليه‏.‏

قال‏:‏ فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وورقا، فلما رأوها قالوا لا ندفنه أبدا‏.‏ قال‏:‏ فصلبوه ورجموه بالحجارة، وجاؤا برجل آخر فوضعوه مكانه‏.‏

قال سلمان‏:‏ فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه، قال‏:‏ فأحببته حباً لم أحب شيئاً قبله مثله‏.‏

قال‏:‏ فأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة فقلت له‏:‏ إني قد كنت معك، وأحببتك حباً لم أحبه شيئاً قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى من توصى بي وبم تأمرني به‏؟‏

قال‏:‏ أي بني، والله ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه، لقد هلك الناس، وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه، فالحق به‏.‏

قال‏:‏ فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له‏:‏ يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال لي‏:‏ أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له‏:‏ يا فلان إن فلاناً أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصى بي، وبم تأمرني‏؟‏

قال‏:‏ يا بني، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به‏.‏

فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري وما أمرني به صاحباي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 382‏)‏

فقال‏:‏ أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له‏:‏ يا فلان إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي، وبم تأمرني‏؟‏

قال‏:‏ يا بني، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فائته فإنه على أمرنا، فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري فقال‏:‏ أقم عندي‏.‏ فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، قال‏:‏ واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة‏.‏

قال‏:‏ ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له‏:‏ يا فلان إني كنت مع فلان، فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي، وبم تأمرني‏؟‏

قال‏:‏ أي بني، والله ما أعلم أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى الأرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل‏.‏

قال‏:‏ ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم‏:‏ احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه‏.‏ قالوا‏:‏ نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبداً، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي‏.‏

فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي لها، فأقمت بها، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام، ولا أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال يا فلان‏:‏ قاتل الله بني قيلة، والله إنهم لمجتمعون الآن بقباء على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي‏.‏

قال سلمان‏:‏ فلما سمعتها أخذتني الرعدة، حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه‏:‏ ماذا تقول، ماذا تقول‏؟‏

قال‏:‏ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال‏:‏ ما لك ولهذا‏؟‏ أقبل على عملك‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال‏.‏

قال‏:‏ وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له‏:‏ إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم‏.‏

قال‏:‏ فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ كلوا، وأمسك يده فلم يأكل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 383‏)‏

فقلت في نفسي‏:‏ هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئاً، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته فقلت له‏:‏ إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها‏.‏

قال‏:‏ فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال‏:‏ فقلت في نفسي‏:‏ هاتان ثنتان‏.‏

قال‏:‏ ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي‏؟‏ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي‏.‏

فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏تحول‏)‏‏)‏‏.‏ فتحولت بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذاك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد‏.‏

قال سلمان‏:‏ ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كاتب يا سلمان‏)‏‏)‏‏.‏

فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏

‏(‏‏(‏أعينوا أخاكم‏)‏‏)‏‏.‏

فأعانوني في النخل‏:‏ الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشرة، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ففقرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، حتى إذا فرغنا فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي على المال‏.‏

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ما فعل الفارسي المكاتب‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فدعيت له‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ وأين تقع هذه مما علي يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذها فإن الله سيؤدي بها عنك‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأخذتها فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتق سلمان، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حراً، ثم لم يفتني معه مشهد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 384‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن رجل من عبد القيس، عن سلمان أنه قال‏:‏ لما قلت‏:‏ وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله‏؟‏ أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏خذها فأوفهم منها‏)‏‏)‏‏.‏

فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، حدثني من لا أتهم، عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال‏:‏ حدثت عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره أن صاحب عمورية قال له‏:‏ إيت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلاً بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة مستجيزاً يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه‏.‏

قال سلمان‏:‏ فخرجت حتى جئت حيث وصف لي، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، حتى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزاً من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه‏.‏

قال‏:‏ فتناولته، فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ والتفت إليّ، قال‏:‏ قلت‏:‏ يرحمك الله، أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، قال‏:‏ إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فأته فهو يحملك عليه، ثم دخل‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان‏:‏ ‏(‏‏(‏لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم‏)‏‏)‏‏.‏

هكذا وقع في هذه الرواية، وفيها رجل مبهم - وهو شيخ عاصم بن عمر بن قتادة - وقد قيل‏:‏ إنه الحسن بن عمارة، ثم هو منقطع بل معضل بين عمر بن عبد العزيز، وسلمان رضي الله عنه‏.‏

قوله‏:‏ لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم، غريب جداً بل منكر‏.‏ فإن الفترة أقل ما قيل فيها أنها أربعمائة سنة وقيل‏:‏ ستمائة سنة بالشمسية، وسلمان أكثر ما قيل إنه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة‏.‏

وحكى العباس بن يزيد البحراني إجماع مشايخه على أنه عاش مائتين وخمسين سنة، واختلفوا فيما زاد إلى ثلاثمائة وخمسين سنة، والله أعلم‏.‏

والظاهر أنه قال‏:‏ لقد لقيت وصي عيسى بن مريم فهذا ممكن بالصواب‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ الرجل المبهم هو الحسن بن عمارة، وهو ضعيف، وإن صح لم يكن فيه نكارة، لأن ابن جرير ذكر أن المسيح نزل من السماء بعد ما رفع فوجد أمه وامرأة أخرى يبكيان عند جذع المصلوب فأخبرهما أنه لم يقتل، وبعث الحواريين بعد ذلك‏.‏

قال‏:‏ وإذا جاز نزوله مرة جاز نزوله مراراً، ثم يكون نزوله الظاهر حين يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويتزوج حينئذ امرأة من بني جذام، وإذا مات دفن في حجرة روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد روى البيهقي في كتاب ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ قصة سلمان هذه من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق كما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 385‏)‏‏.‏

ورواها أيضاً عن الحاكم، عن الأصم، عن يحيى بن أبي طالب‏:‏ حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حاتم بن أبي صفرة، عن سماك بن حرب، عن يزيد بن صوحان أنه سمع سلمان يحدث كيف كان أول إسلامه، فذكر قصة طويلة وذكر أنه كان من رامهرمز، وكان له أخ أكبر منه غني، وكان سلمان فقيراً في كنف أخيه، وأن ابن دهقانها كان صاحباً له، وكان يختلف معه إلى معلم لهم، وأنه كان يختلف ذلك الغلام إلى عباد من النصارى في كهف لهم‏.‏

فسأله سلمان أن يذهب به معه إليهم، فقال له‏:‏ إنك غلام وأخشى أن تنم عليهم فيقتلهم أبي، فالتزم له أن لا يكون منه شيء يكرهه، فذهب به معه فإذا هم ستة أو سبعة، كأن الروح قد خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار، ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا، فذكر عنهم أنهم يؤمنون بالرسل المتقدمين، وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته، أيده بالمعجزات‏.‏

وقالوا له‏:‏ يا غلام إن لك رباً، وإن لك معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دينه‏.‏

ثم جعل يتردد مع ذلك الغلام إليهم، ثم لزمهم سلمان بالكلية، ثم أجلاهم ملك تلك البلاد، وهو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن أرضه، واحتبس الملك ابنه عنده، وعرض سلمان دينهم على أخيه الذي هو أكبر منه فقال‏:‏ إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة، فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسة الموصل فسلم عليهم أهلها‏.‏

ثم أرادوا أن يتركوني عندهم فأبيت إلا صحبتهم، فخرجوا حتى أتوا وادياً بين جبال، فتحدر إليهم رهبان تلك الناحية يسلمون عليهم، واجتمعوا إليهم، وجعلوا يسألونهم عن غيبتهم عنهم، ويسألونهم عني، فيثنون علي خيراً‏.‏

وجاء رجل معظم فيهم فخطبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وذكر الرسل وما أيدوا به، وذكر عيسى بن مريم وأنه كان عبد الله ورسوله، وأمرهم بالخير ونهاهم عن الشر، ثم لما أرادوا الانصراف تبعه سلمان ولزمه‏.‏

قال‏:‏ فكان يصوم النهار، ويقوم الليل من الأحد إلى الأحد، فيخرج إليهم ويعظهم ويأمرهم وينهاهم، فمكث على ذلك مدة طويلة، ثم أراد أن يزور بيت المقدس فصحبه سلمان إليه‏.‏

قال‏:‏ فكان فيما يمشي يلتفت إلي ويقبل علي فيعظني، ويخبرني أن لي رباً، وأن بين يدي جنة وناراً وحساباً، ويعلمني ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد‏.‏ قال فيما يقول لي‏:‏ يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولاً اسمه أحمد يخرج من تهامة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب‏.‏

فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه، قلت له‏:‏ وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه‏؟‏ قال‏:‏ وإن أمرك فإن الحق فيما يجيء به ورضى الرحمن فيما قال‏.‏

ثم ذكر قدومهما إلى بيت المقدس، وأن صاحبه صلى فيه هاهنا وهاهنا، ثم نام وقد أوصاه أنه إذا بلغ الظل مكان كذا أن يوقظه، فتركه سلمان حيناً آخر أزيد مما قال ليستريح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 386‏)‏

فلما استيقظ ذكر الله، ولام سلمان على ترك ما أمره من ذلك، ثم خرجا من بيت المقدس فسأله مقعد، فقال‏:‏ يا عبد الله سألتك حين وصلت فلم تعطني شيئاً وها أنا أسألك، فنظر فلم يجد أحداً فأخذ بيده وقال‏:‏ قم بسم الله، فقام وليس به بأس ولا قلبة، كأنما نشط من عقال‏.‏

فقال لي‏:‏ يا عبد الله احمل علي متاعي حتى أذهب إلى أهلي فأبشرهم، فاشتغلت به ثم أدركت الرجل فلم ألحقه، ولم أدر أين ذهب، وكلما سألت عنه قوماً قالوا‏:‏ أمامك، حتى لقيني ركب من العرب من بني كلب، فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني خلفه، حتى أتوا بي بلادهم، فباعوني فاشترتني امرأة من الأنصار، فجعلتني في حائط لها‏.‏

وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ذهابه إليه بالصدقة والهدية ليستعلم ما قال صاحبه، ثم تطلب النظر إلى خاتم النبوة، فلما رآه آمن من ساعته، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره الذي جرى له‏.‏

قال‏:‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق فاشتراه من سيده فأعتقه، ثم قال‏:‏ سألته يوماً عن دين النصارى فقال‏:‏ لا خير فيهم، قال‏:‏ فوقع في نفسي من أولئك الذين صحبتهم، ومن ذلك الرجل الصالح الذي كان معي ببيت المقدس، فدخلني من ذلك أمر عظيم حتى أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏‏.‏

فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت وأنا خائف، فجلست بين يديه فقرأ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات‏.‏

ثم قال‏:‏ يا سلمان أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى كانوا مسلمين‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لهو أمرني باتباعك‏.‏

فقلت له‏:‏ فإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه، قال‏:‏ نعم فاتركه فإن الحق وما يرضي الله فيما يأمرك‏.‏

وفي هذا السياق غرابة كثيرة، وفيه بعض المخالفة لسياق محمد بن إسحاق، وطريق محمد بن إسحاق أقوى إسناداً، وأحسن اقتصاصاً، وأقرب إلى ما رواه البخاري في ‏(‏صحيحه‏)‏ من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب، أي‏:‏ من معلم إلى معلم ومرب إلى مثله، والله أعلم‏.‏

قال السهيلي‏:‏ تداوله ثلاثون سيداً من سيد إلى سيد، فالله أعلم‏.‏

وكذلك استقصى قصة إسلامه الحافظ أبو نعيم في ‏(‏الدلائل‏)‏ وأورد لها أسانيد وألفاظاً كثيرة، وفي بعضها أن اسم سيدته التي كاتبته حلبسة، فالله أعلم‏.‏